Powered By Blogger

الاثنين، 4 يوليو 2011

تأملاتي في قصة الملدوغ

: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صحيح البخاري ومسلم قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب, فاستضافوهم, فأبوا أن يضيفوهم, فلدغ سيد ذلك الحي, فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء, فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند أحدهم شيء, فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط, إن سيدنا لدغ, وسعينا له بكل شيء لا ينفعه, فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي, ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا, فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جُعلاً, فصالحوهم على قطيع من الغنم, فانطلق يتفل عليه, يقرأ: الحمد لله رب العالمين, فكأنما نُشط من عقال, فانطلق يمشي وما به قَلَبة, قال: فأوفوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه, فقال بعضهم: اقتسموا, فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنذكر له الذي كان, فننظر: ما يأمرنا, فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكروا له ذلك, فقال:"وما يدريك أنها رقية؟", ثم قال: "قد أصبتم, اقسموا واضربوا لي معكم سهماً" وقال في هذا الحديث: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وفي هذا دلالة على جواز أخذ الأجرة على الرقية الشرعية الموافقة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه. كما قرره أهل العلم المعتبرين.
= مسائل في هذا الحديث:
1: مشروعية العلاج بالقرآن الكريم من المرض العضوي الخالص. وهو هنا لدغة الحية أو العقرب, وهنا وقفة مع بعض الأطباء الذين ينكرون أن تكون الرقية بقراءة القرآن والنفث على المريض علاجا للأمراض العضوية التي تستلزم تدخلات جراحية ووجوب استئصال المادة المضرة داخل جسم الإنسان؟! وهنا تلاحظون السم داخل جسم الملدوغ, وفي منطق الطب الحديث أنه يجب أن يخرج بأسرع وقت وبأدوات معينة ومعقمة وإلا فسيموت المريض, ولا بد أن يعطى أدوية مضادة ومطهرة للسم حتى بعد إخراجه, ولا بد أن يضمد ويعتنى به أشد العناية, بتكرار الكشف والتحاليل للتأكد من خلو الجسم من هذا السم القاتل! وتلاحظون أن جميع هذه الأشياء لم تحدث مع هذا الملدوغ الذي كان يصارع الموت قبل أن تنزل عليه رحمة أرحم الراحمين, بسورة الشافية الفاتحة, بريق زكي, من فم صحابي جليل قرأها عليه وتفل فقام كأنما أنشط من عقال؟! أي كأنه مربوط بحبل ثم فكوه عنه فقام. فآيات القرآن والذكر الحكيم نزلت على المريض فأخرجت السم من داخل بدنه وهذا يعني أن القرآن تعدى الحواجز من الجلد والعظام والشعر واللحم والعصب وتغلغل حتى وصل إلى السم فجعله هباء منثورا كأن لم يكن شيئا مذكورا. وكذلك يفعل في باقي الأمراض بلا استثناء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
"هل احتاج الصحابة إلى مشارط لفتح منفذ لخروج السم أو تعقيم المريض عند هذه العملية؟ الجواب لا. لأنه قرأ ونفث فقط. فقام المريض يمشي مع الناس وما به من بأس وانتهى الموضوع.
"هل خرج السم أو بطل مفعوله فأصبح كأنه ماء يمشي في بدن المريض؟ الجواب: السم بطل مفعوله أو خرج وهو يقرأ! الله وحده أعلم. والذي يهمنا هنا أن المريض قام وشفي وانتهت العملية بنجاح تام بنسبة 100%100 وبدون تدخل جراحي!
2: مسألة أخذ الأجرة على هذا العمل الجليل. جاء في هذا الحديث الشريف: أن الصحابة اشترطوا قطيعا من الغنم ليعالجوا الرجل, وهذا الشرط معتبر شرعا حيث إنه عقد بين طرفين مبني على الإيجاب والقبول. أقرأ عليك وأرقيك وتعطيني قطيعا من الغنم وجاء القبول ووافقوا على الشرط. ولم يذكر وينقل أن أهل المريض اعترضوا على عدد الغنم أو حجم الشرط مع أن الغنم عندهم من أنفس المال والحلال! ولم يرد في سياق منطوق الحديث ولا حتى يفهم منه أن أهل المريض اشترطوا الشفاء للملدوغ حتى يحق للصحابة أخذ الأجرة على الرقية بل ورد ألفاظ عامة ولا يصح أن تقيد إلا بدليل مقبول من أهل العلم المعتبرين وبشرط ألا يكون قولا شاذا أو مخالفا لجمهور العلماء.
3: هل يعتبر الصحابة بهذا الشرط الكبير الذي يزيد عن حاجتهم بكثير. مصيبون أم مخطئون؟ والجواب: أنهم مصيبون, لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه ولم ينكر عليهم ذلك, بل طلب منهم أن يعطوه من الغنم الكثير على العمل القليل! ولم يقل لهم لماذا أخذتم قطيعا
كاملا أكثر من حاجتكم, ألم يكفكم خروفين وأنتم رهط قليل! وفي نظر العقلاء أنهم لو أخذوا خروفا واحدا لكفاهم؟! والصحابة - رضي الله عنهم - كان أكلهم قليلا ليس كأكلنا الشره؟ ومع ذلك يكفي العشرين منا خروفا واحدا وليس قطيعا من الغنم!
4: هل جاء في الحديث أو ما بعد الحديث من كلام السلف أو الخلف من أهل العلم الشرعي المعتبرين والمعتد بقولهم, ما يخصص أخذ هذه الأجرة الكبيرة على شخص معين كرئيس قبيلة مثلا أو أمير أو أحد وجهاء القوم؟ الجواب: لم يأت شيء من ذلك ولم يذكر أهل اعلم أن أجر الرقية على الغني تختلف عن الفقير بل ذكروا أنه ينبغي للراقي أن يراعي حالة الفقراء ولا يثقل عليهم, ولم يذكروا حرمة أخذ الأجرة عليهم ولم يحددوها بحد معين لأنها كما أسلفنا عقد اتفاق بين طرفين ولتكون الأجرة على العمل وليس على ضمان الشفاء. ثم إنه لم ينقل أن سيد أولئك القوم كان غنيا وليس الغنى شرط للسيادة في ذلك الوقت, بل هي الشجاعة والنسب والحكمة وسداد الرأي حتى لو كان فقيرا معدما, ومن المتعارف عليه في تلك الأزمنة أن أفراد القبائل يتعاونون فيما بينهم عند النوازل, لاسيما إن كانت في أسيادهم.
5: هل جاء نص يفيد أن أخذ هذه الأجرة الكبيرة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم كان بشرط ضمان الشفاء للملدوغ؟ الجواب: لم يكن ذلك وأنى للصحابة الكرام أن يقولوا ذلك وهم يعلمون ويوقنون أن القرآن الكريم وهو كلام الله العظيم هدى ورحمة للمؤمنين وهو نافع بإذن الله تعالى حتى لو لم يرى نفعه بالعين المجردة. ومعنى هذا أنك إذا قرأت الرقية الشرعية على مريض فإنه ينتفع بها حتى لو لم ترى النفع حاليا, لأن بعض الأمراض تشفى تدريجيا وربما انتفع المريض بنسبة سبعين بالمائة وهو لا يعلم بذلك التحسن لأنه لا يراه وربما لا يحس به. فيترك الرقية ظنا منه أنها لم تنفعه؟ كما يحصل تماما في المستشفيات العامة والخاصة فتجد بعض المرضى يدفع الأموال الكثيرة للطبيب النفسي في عيادته أو المستشفى. بل يدور على مستشفيات العالم ولا يقتنع بأدويتهم لأنه كلما أخذ دواء بحث عن غيره؟ وهل سيرجع إلى كل طبيب نفسي أو مستشفى ليأخذ ما دفعه لهم لعدم الجدوى وعدم الشفاء الظاهر له, حتى يقوم وكأنما أنشط من عقال! وهل يضمن الطبيب هذه المبالغ إذا توسعنا في تخيير المريض بين شرط الشفاء لأخذ الجعالة أو الأجرة على عمل الطبيب؟! لأن الراقي طبيب. كما جاء من كلام ابن القيم - رحمه الله – قي كتابه العلاج بالرقى والعوذ والتطبب بها ص43:(إن العلاج من الأرواح يسمى طبا ويسمى مباشره طبيبا وراقيا ونحوه ..).
وهل إذا أعطى الطبيب النفسي للمريض بالوسواس مثلا دواء ثم لم يناسبه هذا الدواء بعدما اشتراه بمبالغ تصل بعض الأحيان لآلاف الريالات. هل يجب عليه أن يضمن الشفاء على جلساته السلوكية المعرفية أو تنويمه المغناطيسي أو وصفاته الدوائية الباهظة الثمن التي أثقلت على المرضى لاسيما الفقراء والمساكين بحكم أن الجميع أطباء وداخلون في الحديث السابق؟! الجواب: لا يضمن لأن هذا اجتهاد منه وهو طبيب معروف بطبه, واجتهاده مبني على الظن الغالب وهو قابل للخطأ والصواب, شأنه شأن المعالج بالرقية الشرعية والطبيب البدني سواء بسواء. إلا إذا كان غير معروف بالطب وصرف دواء لمريض دون إحالته على طبيب مختص بذلك فإنه يضمن.
وقد أفتى باشتراط الشفاء على أخذ الأجرة بالرقية الشرعية بعض الدخلاء على العلم الشرعي من الأطباء النفسيين المعروفين لغرض التضييق على الرقاة! وقد جاء بهذا السبق العلمي الشرعي بفتواه جازما بذلك. ومتخطيا علماء الأمة الإسلامية قديما وحديثا!
وحجته في ذلك التقييد الفريد للفظ العام المفيد, أن الصحابة لم يأخذوا قطيع الغنم إلا بعدما شفي الرجل الملدوغ؟ وهو يريد هنا أن يوصل إلى أذهاننا مفهوما للحديث – حسب فهمه للنصوص الشرعية والأصول والقواعد الفقيه – مفاده أن هناك اختلافا بين الأجرة والجعالة, وأن الراقي لا يجوز له أخذ الأجرة على عمل الرقية دون اشتراط الشفاء للمريض, ويجوز له أن يشترط جعلا على الشفاء, وقد جعل فعل الصحابة الكرام في حديث الملدوغ أجرة على عمل الرقية, حيث استدل بجواز أخذ الأجرة على عمل الرقية دون اشتراط الشفاء بحديث الملدوغ, واستدل بنفس الحديث على أن الصحابة أخذوا قطيع الغنم بالجعالة على شرط الشفاء, لا أجرة على عمل الرقية دون شرط الشفاء! في آن واحد؟ وإليكم ما نقلته من كتاب الدكتور طارق الحبيب - جزاه الله خيرا - في كتابه (العلاج النفسي والعلاج بالقرآن) وهو يتحدث بكل تجرد عن إثبات جواز أخذ الأجرة على عمل الرقية دون شرط الشفاء, وجواز أخذ الجعالة على شرط الشفاء, وأن الراقي مخير بين ذلك حسب اتفاقه مع المريض أو أهله إن كان لا يستطيع ذلك. قال في فصل (أخذ الأجرة على الرقية) ص 97
:(يبدو من النصوص الواردة أنه يجوز للراقي أخذ الأجرة على الرقية .. ففي البخاري: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) وأخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(اخرج عدو الله أنا رسول الله) قال فبرأ, فأهدت إليه كبشين وشيئا من أقط وسمن, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا يعلى خذ الأقط والسمن, وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر). قال:" ويتضح هذا الأمر جليا في الحديث السابق الذي مر بنا في أحوال الرقية حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم) ففي هذا الحديث نص صريح على جواز الأجرة على الرقية.
ولقد بوب النووي في شرح صحيح مسلم في كتاب الطب: باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار.
وقال الدكتور الحبيب: كما يحق للراقي أيضا أن يشترط أجرة على رقيته, فقد بوب لذلك الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الطب: باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب. وقال في نفس السياق:" ويحق للراقي أن يشترط جعلا إن كتب الله الشفاء للمريض. دليل ذلك ما سبقت الإشارة إليه من رواية البخاري لقصة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع سيد الوادي اللديغ. (عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - :" أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا, فجعلوا لهم قطيعا من الشاء, فجعل يقرا بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشاء, فقالوا: لا تأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فضحك وقال:(وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم) فموافقة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلهم بل وتطييبه لخواطرهم بأن جعل نفسه معهم دليل على جواز اشتراط الجعل على الشفاء". وهنا يتضح التناقض بين القولين حيث قال في فتواه الأولى بأن أخذهم قطيع الغنم كان أجرة على عمل الرقية, وهنا قال إنه اشتراط الجعل على الشفاء؟!
ثم قال: (ويختلف الجعل (الجعالة) عن الأجرة. جاء في معجم لغة الفقهاء ص164: الجعالة: بكسر الجيم, والجعل – بضم الجيم- ما يجعل على العمل, وهو أعم من الأجرة. (فالجعالة): التزام عوض معلوم على عمل معين بقطع النظر عن فاعله, كقوله: من رد علي حصاني فله كذا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مجموع الفتاوى جزء20ص507:" ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز لأن الشفاء غير مقدور له, فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه, فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة". وهنا يتضح تنطع من جعل الصحابة في حديث الملدوغ قد تفاهموا مع أهله على أنهم لن يأخذوا قطيع الغنم إلا إذا شفي الملدوغ وإلا فلا؟. مع أنه يعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). وهذا لفظ عام يفيد بأن كل من أخذ على رقيته أجرا فهو جائز سواء شفي المريض أم لا, لأنه لفظ عام وفيه تيسير للعباد ورحمة من رب العباد..
وقال رحمه الله في نفس الموضع من مجموع الفتاوى: (إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز, كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي فرقاه بعضهم حتى برأ, فأخذوا القطيع. فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة). ثم قال د. الحبيب: (والذي يبدو من كلام العلماء في هذه المسألة أنه لا حد للأجرة أو الجعالة التي يحق للراقي أن يطلبها). ولعل التناقض هنا واضح. فمرة يجوز مفتي أطباء النفس أخذ الأجرة على عمل الرقية, ومرة يظهر في قناة فضائية فيفتي بعدم جوازها, وأن الجائز هو أخذ الجعالة على شرط الشفاء فقط؟ أما تعب الراقي ووقته وخبرته وعلمه فليس لها محل من الإعراب, بخلاف خبرة وفضل ووقت وعلم أطباء النفس, مع العلم بأن حامل المسك ليس كنافخ الكير, وشتان بين مشرق ومغرب, وشتان بين الثرى والثريا. وشتان بين حامل القرآن وحامل نظريات علماء الإلحاد والكفر والزندقة من أمثال فرويد وغيره.
= فائدة = قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) جاء هنا لفظ الأجر, وجاء في سياق الحديث قوله: (ما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا) حيث جاء لفظ الأجر والجعالة في نفس الحديث, وهنا يتبين الاختلاف في: هل كان فعل الصحابة جعلا على شرط الشفاء, أو أجرا على عمل الرقية, كما مر سابقا؟ والجواب أنه كان أجرا, ولو كان الأمر جعلا, لما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأبي وأمي قد أوتي جوامع الكلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). ولم يقل: (إن أحق ما أخذتم عليه جعلا كتاب الله) ومن جعل مفهوم كلام الصحابة أولى من منطوق ومفهوم كلام رسول الله فقد أخطأ خطأ بينا, وجمعا للقولين: فإن هذا دلالة واضحة على أن اللفظين يمكن أن يجتمعا في المعنى, وإلا لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم عملهم أجرا للرقية وهي تختلف عن الجعالة, كما أفتى بذلك من أفتى بأن عملهم كان جعالة على شرط الشفاء, لا أجرة على عمل الرقية.
وعليه فلا ينبغي التفريق بينهما في المعنى والحكم, والاستدلال بهما على حكم واحد! بل الواجب أن يقال:
1: يجوز للراقي أن يشترط أجرا غير محدد على رقيته دون شرط الشفاء.
2: يجوز للراقي أن يشترط جعلا غير محدد بشرط الشفاء.
3: يجوز للراقي أن لا يشترط شيئا, ويجوز له أخذ الأجرة كاملة إن أعطي, كما يجوز له رد بعضها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
4: يجوز للراقي أن لا يشترط شيئا ولا يأخذ شيئا.
5: يكره للراقي أن يمتنع عن الرقية إذا طلبت منه, بمقابل أو بدون مقابل مادي, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). إلا إذا كان لا يستطيع ذلك في وقته لعذر معتبر.
6: يجوز اشتراط الأجر. أو الجعل بشرط الشفاء للطبيب النفسي والطبيب البدني - كما يجوز للراقي -  لأنهم كما أسلفنا يشتركون في الطب, والراقي الشرعي يسمى طبيبا, كما جاء من كلام الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى – سابقا.
7: ينبغي للراقي أن يراعي حالة المرضى فليسوا سواء, فمنهم الغني والفقير.
8: ينبغي لجميع الأطباء بلا استثناء مراعاة حالة المرضى المادية في عياداتهم الخاصة, وعدم الطمع والجشع والتوسع في تكاليف الأدوية والكشوفات لاسيما الأمراض النفسية.
9: لا يجوز للأطباء النفسيين مزاحمة أهل العلم الشرعي بالفتاوى الشرعية المخالفة للمنطوق والمفهوم وغير المنضبطة بالأصول والقواعد الشرعية, كالمطلق والمقيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من أصول الفقه وقواعده المعتبرة. وتعريض أنفسهم لخطر القول على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
الحديث الثاني:
:" حدثنا ‏ ‏هناد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو معاوية ‏ ‏عن ‏ ‏الأعمش ‏ ‏عن ‏ ‏جعفر بن إياس ‏ ‏عن ‏ ‏أبي نضرة ‏ ‏عن ‏ ‏أبي سعيد الخدري ‏ ‏قال: ‏(بعثنا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في ‏سرية ‏ ‏فنزلنا بقوم فسألناهم ‏‏القرى ‏فلم ‏‏يقرونا ‏‏فلدغ سيدهم فأتونا فقالوا هل فيكم من ‏ ‏يرقي ‏ ‏من العقرب قلت نعم أنا ولكن لا ‏ ‏أرقيه ‏ ‏حتى تعطونا غنما قال فأنا أعطيكم ثلاثين شاة فقبلنا فقرأت عليه ‏ ‏الحمد لله ‏ ‏سبع مرات ‏ ‏فبرأ ‏ ‏وقبضنا الغنم قال فعرض في أنفسنا منها شيء فقلنا لا تعجلوا حتى تأتوا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال فلما قدمنا عليه ذكرت له الذي صنعت قال ‏‏وما علمت أنها ‏ ‏رقية ‏‏اقبضوا الغنم واضربوا لي معكم ‏ ‏بسهم). قال ‏أبو عيسى ‏هذا ‏حديث حسن. ‏وأخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه".
‏وفي رواية عند الدارقطني بعث سرية عليها أبو سعيد, وفي رواية الأعمش عند غير الترمذي: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا فنزلنا بقوم ليلا, فأفادت عدد السرية ووقت النزول. كما أفادت رواية الدارقطني تعيين أمير السرية.‏
عدد الغنم 30 رأسا, وجاء في روايات أخرى في حديث الملدوغ أن عدد الغنم أكثر من ذلك, وعدد الصحابة قليل, يعني أنهم أخذوا أكثر من حاجتهم للأكل بكثير, وفي هذا دلالة واضحة أنه يجوز للراقي أخذ أكثر من حاجته مقابل رقية واحدة وبسورة واحدة. وليس في هذا دلالة على جواز أخذ هذه الأجور على رقية المتطبب الجاهل الذي يستغل هذه الأحكام لتحصيل المال, دون العمل المبني على العلم الشرعي المؤصل بفقه التداوي وفقه التصدي لحاجات الناس وضروراتهم المعتبرة شرعا, ولذلك يكون المتطبب ضامنا كغيره من الأطباء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه العلامة الألباني – رحمه الله – من رواية أبي داوود والنسائي وابن ماجه) :من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن).
كما لا يجوز للطبيب النفسي التعدي على ضرورات الناس أو استغلالهم ماديا. كمن يصرف أدوية نفسية دون الكشف على المريض عضويا والتأكد من خلوه من الأمراض التي لا تتناسب مع ما وصفه له, كما هو حاصل في كثير من عيادات الطب النفسي!
والواجب على الطبيب النفسي أن يحيل المريض إلى طبيب عام بوصفته الطبية, ليعمل له التحاليل والكشوفات ويتأكد من سلامته وملائمة تلك الأدوية له, قبل أن يصرفها, ونحن نلاحظ في عياداتنا للرقية الشرعية بعض المرضى وقد أتوا بأكياس مملوءة من الأدوية النفسية وجميعها مفتوحة وقد استخدم من كل نوع قطرة! فإن سألته لماذا كل هذا؟ فيقول صرف لي الطبيب النفسي علاجا فلم يناسبني وسبب لي مضاعفات عضوية, ثم غيره لعلاج آخر فلم يناسبني كذلك؟ فما زلت أتردد عليه حتى ملأت هذا الكيس ولم تتغير حالتي بل أصبحت إلى الأسوأ, وزاد وزني بشكل مريع وأصبحت كثير النوم قليل الحركة مضطرب الحال والصحة - الخ – فنقول للمريض هل عمل لك تحاليل وفحوصات قبل أن يصرف لك العلاج لتتناوله هكذا؟ فيقول: لا! بل جلست معه وشكوت إليه حالتي وهو على مكتبه فكتب لي هذه الأدوية ثم ذهبت واشتريتها واستخدمتها.
والسؤال هو: هل يضمن هذا الطبيب النفسي إن صرف للمريض دواء له مضاعفات وآثار جانبية خطيرة بعضها يؤدي إلى الوفاة, دون إحالته لطبيب عضوي مختص حتى يتأكد من صلاحية الدواء له عضويا ومقدار الجرعة, قبل استخدامه لها, فهل إذا تسبب الطبيب النفسي في عاهة للمريض أو وفاته يضمن؟ نترك الإجابة للقضاء.
والواجب أن تمنع الوصفات المباشرة للمرضى من الطبيب النفسي حتى يتم التأكد من وجود مختبر وطبيب عام على الأقل, أو تكون للطبيب النفسي مصادر طبية عضوية للإحالة عليها إلزاما. وإلا يمنع من مزاولة الطب حفاظا على أرواح الناس وصحتهم.
جاء في رواية أبي داود والنسائي والترمذي من طريق خارجة بن الصلت عن عمه أنه مر بقوم وعندهم رجل مجنون موثق في الحديد.
فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل, وفي لفظ عن خارجة بن الصلت عن عمه يعني علاقة بن صحار: أنه رقى مجنونا موثقا بالحديد بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام كل يوم مرتين فبرأ, فأعطوني مائتي شاة. فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" خذهما ولعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق." ‏
ولاحظ هنا: مائتا شاة مقابل رقية لمدة ثلاثة أيام, بمعدل 66,6 شاة يوميا, لشخص واحد؟ واحسب قيمة هذه الغنم في يومنا هذا! وهو قرأ بفاتحة الكتاب وكل يوم مرتين فقط, بسورة واحدة فقط؟!
جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:
(فقرأت عليه الحمد سبع مرات)
‏وفي رواية للبخاري:" فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين. قال الحافظ: يتفل بضم الفاء وبكسرها وهو نفخ معه قليل بزاق. قال ابن أبي حمزة محل التفل في الرقية يكون بعد القراءة لتحصيل بركة القراءة في الجوارح التي يمر عليها الريق فتحصل البركة في الريق الذي يتفله.
‏(فبرأ)
‏. وفي رواية للبخاري: فكأنما نشط من عقال, فانطلق يمشي وما به قلبة
‏(وما علمت أنها رقية) ‏
‏:أي كيف علمت؟. وفي رواية البخاري: وما يدريك أنها رقية؟
‏(واضربوا لي معكم بسهم) ‏
‏أي اجعلوا لي منه نصيبا, وكأنه أراد المبالغة في تأنيسهم كما وقع له في قصة الحمار الوحشي وغير ذلك. وفي الحديث جواز الرقية بشيء من كتاب الله تعالى, ويلحق به ما كان من الدعوات المأثورة, أو مما يشابهها, ولا يجوز بألفاظ مما لا يعلم معناها, من الألفاظ الغير العربية
.
جاءت أحاديث كثيرة وروايات مختلفة في عدد الصحابة الذين أخذوا الأجرة, وعدد الغنم التي أخذوها, والمؤكد أنهم أخذوا أكثر من حاجتهم بكثير, وما جاء في حديث الترمذي أن ذلك الرجل الذي أخذ مائتي شاة هو دلالة واضحة على جواز أخذ الأجرة على عمل الرقية, فلم يذكر أنه اشترط جعلا من الغنم, ولم يكن أخذه جعالة بشرط الشفاء بلا حد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق